فصل: مسألة قال هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل علي اليوم أحد غيرك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة قال هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل علي اليوم أحد غيرك:

ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا:
وسئل مالك: عن رجل دخل حانوت بزاز ليشتري منه ثوبا ثم خرج منه فاتبعه صاحب الحانوت، فقال: يا أبا عبد الله، هذا دينار وجدته في حانوتي ولم يدخل علي اليوم أحد غيرك فعد الرجل نفقته فافتقد منها دينارا أترى أن يأخذه؟ فقال مالك: لا أدري هو أعلم بنفسه، إن استيقن أنه ديناره فليأخذه، قيل له: التاجر يقول لم يدخل عَلَيَّ اليوم أحد غيرك، وقد افتقد الرجل من نفقته دينارا، قال: إن استيقن أنه له فليأخذه.
قال محمد بن رشد: في قوله: إنه إن استيقن أنه له فليأخذه- دليل على أنه لا يأخذه إلا أن يستيقن أنه له زيادة على ما ذكر له فجعل له به اليقين أنه له، وهذا على سبيل التورع والنهاية فيه إذ لم يعتره شك في أنه له فأخذه له حلال سائغ؛ لأن الغالب على ظنه أنه له إذ قد افتقد من نفقته دينارا، ولو لم يعلم عدد نفقته لساغ له عندي أن يأخذه، لقول صاحب الحانوت له إنه لم يدخل أحد علي اليوم غيرك، وإن كان التورع عن أخذه أولى وأحسن، وكذلك لو قال له صاحب الحانوت هذا الدينار وجدته في مكانك ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت، فعد الرجل نفقته فافتقد منها دينارا، وأما لو قال له صاحب الحانوت هذا الدينار وجدته في مكانك بعد خروجك عني ولا أدري هل هو لك أو لغيرك ممن دخل الحانوت والرجل لا يعلم عدد نفقته لما ساغ له أن يأخذه بشك.

.مسألة للقطة يجدها الرجل أيأخذها:

ومن كتاب أوله حديث طلق بن حبيب:
وسئل مالك: عن اللقطة يجدها الرجل أيأخذها؟ قال: أما الشيء الذي له بال فإني أرى ذلك، فقال له الرجل: إني رأيت شنف قرط في المسجد مطروحا فتركته؟ قال: لو أخذته فأعطيته بعض نساء المسجد يعرفنه كان أحب إلي، قال: فكذلك الرجل يجد الشيء فإن كان لا يقوى عليه فإنه يجد من يثق به يقبله منه فيعرفه، وإن كان الشيء له بال فأراد أن يأخذه، قال سحنون: قال لي ابن القاسم، وقال لي مالك غير مرة: إذا كان شيئا يسيرا فليتركه، قال: قلت لابن القاسم: أرأيت إذا دفعه إلى مثله في الأمانة والثقة فضاع منه ثم جاء صاحبه، هل يكون على الذي وجده ضمان؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قال في اللقطة التي لها بال: إن من وجدها يأخذها ولم يذكر هل ذلك واجب عليه أو مستحب له، وفي ذلك تفصيل.
أما إذا كانت بين قوم مأمونين وإمام عدل لا يخشى منه إن هو عرفها أن يأخذها، فأخذها وتعريفها مستحب له، مخافة أن تقع إلى غير مأمون فيذهب بها.
وأما إن كانت بين قوم غير مأمونين وإمام عدل فأخذها وتعريفها واجب؛
لأن ذلك حفظها على ربها، وحفظ أموال الناس واجب وفي تركها إضاعتها، وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إضاعة المال، ولو كانت بين قوم مأمونين وإمام غير عدل فخشى إن هو عرفها أن يأخذها لكان الاختيار له أن لا يأخذها، ولو كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عدل لكان أخذها مباحا له إن شاء أن يأخذها مخافة أن يأخذها غيره فيذهب بها، وإن شاء أن يتركها مخافة أن يأخذها السلطان إن هو أخذها فعرفها.
وأما اللقطة اليسيرة التي لا قدر لها إلا أنها مما قد يشح بها صاحبها ويطلبها، فاختلف قول مالك هل الأفضل أخذها أو تركها، وذلك إذا كانت بين قوم مأمونين، فمرة رأى أخذها وتعريفها أفضل مخافة أن تقع إلى من يذهب بها، ومرة رأى أن تركها أفضل رجاء أن يرجع صاحبها فيجدها، وأما إذا كانت بين قوم غير مأمونين فأخذها وتعريفها أفضل، واحدا، والله أعلم.
وقد اختلف في حد تعريفها، فقيل: يعرفها حولا كاملا كالتي لها بال، وهو ظاهر قول مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة، وقيل: يعرفها أياما، وهو قول ابن القاسم من روايته في المدونة ورواية عيسى عن ابن وهب في رسم النسمة من سماعه من هذا الكتاب، وأما اللقطة اليسيرة جدا التي يعلم أن صاحبها لا يشح بها ولا يطلبها فهي لمن وجدها ليس عليه أن يعرفها وإن شاء تصدق بها، والأصل في ذلك ما روى «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بتمرة في الطريق، فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» ولم يذكر فيها تعريفا، وبالله التوفيق.

.مسألة اللقطة يجدها الرجل فيعرفهما سنة فلا يجد:

وسئل مالك: عن اللقطة يجدها الرجل فيعرفهما سنة فلا يجد صاحبها فيستنفقها ثم تحضره الوفاة فيوصي بها ويترك دينا عليه ولا وفاء له، كيف ترى؟ قال: أرى أن يحاص الغرماء بها أهل الدين بقدر ما يصيبها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن إقرار المديان بالدين عند مالك جائز لمن لا يتهم عليه، كان إقراره في صحته أو في مرضه، وإنما يفترق عنده الصحة من المرض في رهنه وقضائه بعض غرمائه دون بعض وفي إقراره بالدين لمن جهم عليه فلا يجوز شيء من ذلك عنده في المرض، واختلف قوله في جواز ذلك في الصحة، فمرة أجاز ذلك كله، ومرة لم يجزه، ومرة فرق بين الرهن والقضاء والإقرار لمن يتهم عليه، فأجاز الرهن والقضاء ولم يجز الإقرار، ومرة أجاز القضاء خاصة ولم يجز الرهن ولا الإقرار.
وأما إن أقر أنه استنفق اللقطة ولا دين عليه ولم يقم بذلك عليه حتى مات، فإن كان إقراره بذلك في صحته جاز ذلك من رأس ماله على ورثته، وإن كان إقراره بذلك في مرضه فإن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال أوصى أن يتصدق بها عن صاحبها أو توقف له، واختلف إن كان يورث بكلالة، فقيل: إنه إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي صاحبها جازت من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق بها عنه لم يقبل قوله ولم تخرج من رأس المال ولا من الثلث، وقيل: إنه يكون من الثلث، وقيل: إنه إن كانت يسيرة جازت من رأس المال، وإن كانت كثيرة لم تكن في رأس المال ولا في الثلث، وقد مضى هذا المعنى مجودا في رسم ليرفعن من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس.

.مسألة أخذ الثوب وهو يظنه لقوم فسألهم عنه فقالوا ليس هو لنا فرده في موضعه:

ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس:
وسئل مالك: عن الرجل يجد الثوب ملقى فيأخذه وهو يظنه لقوم يراهم فيسألهم عن ذلك، فيقولون: ليس هو لنا، فيريد أن يرده حيث وجده فيضعه فيه، قال: لا أرى بذلك بأسا، قيل لابن القاسم: فإن كانت دنانير أو دراهم؟ قال: فلو أخذها فعرفها كان أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أخذ الثوب وهو يظنه لقوم فسألهم عنه فقالوا ليس هو لنا فرده في موضعه: إنه لا بأس بذلك- معناه: أنه لا ضمان عليه إن فعل، والاختيار له أن لا يفعل، كما قال في الدنانير والدراهم، إذ لا فرق في ذلك بين الثوب والدنانير والدراهم. ومعنى ذلك: إذا أخذ الثوب على غير وجه الالتقاط ورده بالقرب أيضا، ولو أخذه على وجه الالتقاط لكان ضامنا له وإن رده بالقرب في موضعه، هذا مذهب ابن القاسم. وقال أشهب: لا ضمان عليه إن رده في موضعه بقرب ذلك أو بعده، فإن رده في غير موضعه ضمن، والقول قوله في رده في موضعه مع يمينه على ذلك، وقول أشهب في مساواته بين أن يرد الثوب في موضعه بالقرب أو بالبعد بعيد، لاسيما إن كان أخذه على وجه الالتقاط، وبالله التوفيق.

.مسألة قال صاحب الجمل لرجل قم عليه ولك نصفه إن حيي:

ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال:
وسئل: عن جمل قام ببعض الطريق فأخذه رجل فأنفق عليه وقام عليه، ثم إن صاحبه رجع إليه فوجده قد صح، قال مالك: يدفع إليه الذي قبضه ما أنفق عليه ويأخذ جمله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى في رسم حلف قبل هذا، فلا معنى لإعادته، ولو قال صاحب الجمل لرجل: قم عليه وأنفق ولك نصفه إن حيي لم يجز؛ لأنه غرر في الثمن والمثمون، فإن جاء ربه وقد أنفق عليه أخذ جمله وكان للمنفق قيمة نفقته وخدمته، وكذلك إن مات الجمل كان على ربه قيمة ما أنفق أيضا وما خدم، وبالله التوفيق.

.مسألة أخذ اللقطة:

ومن كتاب أوله سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال مالك: لا أحب لأحد يجد اللقطة أن يأخذها، إلا يكون لها قدر.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم طلق بن حبيب، فلا معنى لإعادته.

.مسألة يأخذ متاعه ويغرم للذي احتمله أجر ما احتمله:

وسئل: عن رجل ماتت راحلته بفلاة من الأرض فأسلم متاعه فأخذه رجل فاحتمله إلى منزله ثم وجد متاعه، قال: أرى أن يأخذ متاعه ويغرم للذي احتمله أجر ما احتمله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن كان أخذه واحتمله إلى منزله على وجه الحفظ لصاحبه والنظر له أو هو يرى أنه يستحقه بحمله إلى منزله إذ قد أسلمه صاحبه، وأما إن كان أخذه واحتمله على وجه الاغتيال له والسرقة والتعدي وهو يعلم أن ملك صاحبه باق عليه إلى أن يرجع عنه فلا كراء له في حمله، والقول قوله مع يمينه أنه لم يأخذه إلا على الوجه الذي يذكره من ذلك، والله الموفق.

.مسألة طرحوا من متاعهم ثم وجدوها عند قوم أخذوها من ماء البحر:

وقال مالك في قوم خافوا على مركبهم غرقا فطرحوا من متاعهم، ثم وجدوها عند قوم أخذوها من ماء البحر، قال مالك: يأخذون متاعهم منهم، وهذا بين بأنهم يأخذونه وعليهم أجر إخراجه من البحر إن كانوا غاصوا عليه وأجر حمله إن كانوا حملوه إلى مأمن.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، ويدخل فيها من الاختلاف ما ذكرنا في رسم حلف من سماع ابن القاسم في الذي يقوم عليه دابته في السفر فيسلمها على وجه اليأس منها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبينهما جميعا ما مضى من التفصيل في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها؛ لأن المعنى فيها كلها سواء، وقال سحنون فيمن وقع له ثوب في بئر أو جب فنزل فيه رجل فأخرجه فأتى ربه فطلب منه أجرة فامتنع فرده مخرجه في البئر أو الجب فطلبه فيه ربه فلم يجده، قال: يخرجه الذي كان رده فيه وإلا ضمنه، قال محمد: وإذا أخرجه فينبغي أن يكون له أجره إذا كان ربه لا يصل إلى ذلك إلا بأجر، وبالله التوفيق.

.مسألة أخذ وتعريف ضالة الإبل:

من سماع أشهب وابن نافع عن مالك من كتاب الأقضية قال أشهب: سألت مالكا: عن قول عمر بن الخطاب في الذي وجد البعير ضالا: أرسله حيث وجدته، فقال لي مالك: نعم يرسله حيث وجد.
قلت: له: يشهد عليه أم لا؟ فقال: ما شأنه يشهد عليه؟ كأنه لا يرى ذلك عليه، قال ابن نافع: وأرى أن يشهد على إرساله أحب إلي.
قال محمد بن رشد: ثبت عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال في ضالة الإبل: «ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها»، فالاختيار فيها أن لا تؤخذ فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب، وأخذ به مالك في أحد قوليه، وهو قوله هاهنا وفي المدونة، وقيل: إنها تؤخذ وتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها، فإن لم يأت وأيس منه تصدق به عنه، جاء ذلك عن عثمان بن عفان، رُوِيَ ذلك عن مالك أيضا، قال: من وجد بعيرا ضالا فليأت به الإمام يبيعه ويجعل ثمنه في بيت المال، يريد: بعد أن يعرف، وقال في مدونة أشهب: يوقف ثمنه حتى يأتي ربه، وإن كان الإمام غير عدل خلي حيث وجد.
وإنما اختلف الحكم في ذلك من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان لاختلاف الأزمان بفساد الناس، وكان الحكم فيها في زمن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وخلافة عمر بن الخطاب: أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف حيث وجدت تركت.
ثم كان الحكم فيها في زمن عثمان لما ظهر من فساد الناس أن تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقفت أثمانها، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيها اليوم إن كان الإمام عدلا وإن كان غير عدل يخشى عليها إن أخذت لتعرف تركت ولم تؤخذ، فإن كان إنما يخشى على ثمنها إن بيعت أخذت فعرفت وإن لم تعرف ردت حيث وجدت.
واختلف إن كانت الإبل الضوال بعيدة من العمران في موضع يخاف عليها السباع، فقيل: إنها في حكم الشاة؛ لأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قد ذكر العلة التي من أجلها فرق بين ضالة الغنم وضالة الإبل بقوله في الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذيب» وقيل: إنها تؤخذ وتعرف بخلاف الشاة إذ لا مشقة في حلبها، وكذلك البقر إن كانت بموضع يخاف عليها السباع يدخل فيها من الخلاف ما دخل في الإبل إن كان المشقة في حلبها، والمنصوص فيها في المدونة أنها بمنزلة الغنم.
وقوله في الرواية: ليس عليه أن يشهد على إرسالها، معناه: في غير المتهم، بدليل قوله بعد هذا في هذا الرسم: إن المتهم يشهد.
وقول ابن نافع: وأرى أن يشهد على إرسالها أحب إِلَيَّ- ظَاهِرُهُ: وإن لم يتهم ليدفع عن نفسه الظنة، وأما المتهم فإن لم يشهد لحقته اليمين.

.مسألة تعريف اللقطة في المساجد:

وسألته عن تعريف اللقطة في المساجد، قال: لا أحب رفع الصوت في المساجد، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد، فأحب إلي أن لا تعرف في المساجد. ولو مشى هذا إلى الخلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد ولا يرفع صوته- لم أر بذلك بأسا إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن رفع الصوت في المسجد مكروه حتى في العلم، وقد بنى عمر بن الخطاب رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحا، فقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا ويرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة، وفي فعله الأسوة الحسنة، وبالله التوفيق.

.مسألة ضالة الإبل تعرف فلا تعرف:

وسئل: عن ضالة الإبل تعرف فلا تعرف، أترى أن يخليها؟ قال: نعم أرى أن يخليها حيث وجدها، قيل: أفترى أن يشهد على تخليتها؟ قال: أما المتهم فهو خير إن شاء الله أن يشهد، وأما الرجل المأمون فلا أرى ذلك عليه، قيل له: أفترى الأباق كذلك إذا عرفه، قال: نعم أرى إذا عرفه فلم يجد من يعرفه أن يخليه خيرا له من أن يبيعه فيهلك ثمنه ويوكل، أو يطرح في السجن فيقيم ولا يجد من يطعمه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم فوق هذا في هذا الرسم بعينه القول في حكم ضوال الإبل للتعريف وإرسالها حيث وجدت إذا لم تعرف والإشهاد على ذلك، فلا معنى لإعادة القول في ذلك.
وأما الأباق فساوى في هذه الرواية بينهم وبين ضوال الإبل في أنهم يرسلون إذا عرفوا فلم يعرفوا، وقال في المدونة: إنهم يحبسون سنة ثم يباعون فتحبس أثمانهم لأربابهم ولا يرسلون؛ لأنهم إن أرسلوا أبقوا ثانية، بخلاف ضوال الإبل، فالظاهر أن ذلك اختلاف من القول، وعلى ذلك كان يحمله الشيوخ، والأولى أن يحمل على الخلاف فيكون الوجه في ذلك أنه إن خشي عليه أن يضيع في السجن بغير نفقة وأن يتلف ثمنه إن بيع كان إرساله أولى من حبسه على ما قال في هذه الرواية، وإن لم يخش عليه أن يضيع في السجن ولا أن يتلف ثمنه إن بيع كان حبسه سنة، ثم بيعه بعد السنة وإمساكه لصاحبه أولى من إرساله لئلا يأبق ثانية إن أرسل، بخلاف ضوال الإبل، على ما قاله في المدونة.
وموضع الخلاف في ذلك عند من حمله على الخلاف إنما هو إذا خشي عليه أن يضيع في السجن وأن يتلف ثمنه إذا بيع، فمرة رأى إرساله أولى لئلا يضيع ويتلف ثمنه، ومرة رأى حبسه وبيعه وإمساك ثمنه أولى من إرساله لئلا يأبق ثانية إن أرسل، والاختلاف في هذا إنما هو بحسب الاجتهاد في أي الخوفين أشد، وأما إن لم يخش عليه أن يضيع في السجين ولا أن يتلف ثمنه إذا بيع فلا يرسل لئلا يأبق ثانية قولا واحدا والله أعلم، ولو لم يخش عليه أن يضيع في السجن وخشي على ثمنه أن يضيع إن بيع لوجب أن يسجن سنة يعرف فيها، فإن لم يأت له طالب سرح ولم يحبس أكثر من السنة التي هي حد تعريف اللقطة، ولو لم يخش على ثمنه ضياع إن بيع وخشي عليه إن سجن أن يضيع في السجن لوجب أن يباع ويوقف ثمنه رجاء أن يأتي صاحبه ولا يسجن مخافة أن يضيع في السجن، وبالله التوفيق.

.مسألة من أخذ ضالة فهو ضال:

وسئل: عن قول عمر بن الخطاب: من أخذ ضالة فهو ضال ما يريد بقوله؟ قال: يريد هو مخطئ فلا يأخذها، يرى أن يتركها، وإنما يعني بذلك الإبل، وليس يقول أحد: ضل غلامي، وإنما يقال: الضالة الإبل، وقد قال ابن شهاب: كانت ضوال الإبل في زمن عمر إبلا مؤبلة.
قال محمد بن رشد: إنما رأى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن لا تؤخذ الضالة، وقال: من أخذها فهو ضال، أي: مخطئ؛ لنهي الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ عن أخذها بقوله: «ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها»، فقيل: إن ذلك عام في جميع الأزمان، وقيل: بل هو خاص في زمن العدل وصلاح الناس، وقد مضى القول على هذا في أول الرسم، وبالله التوفيق.

.مسألة أخذ ضالة فباعها وتصدق بثمنها وجاء صاحبها:

ومن كتاب الأقضية الثالث:
وسألته: عمن أخذ ضالة فباعها وتصدق بثمنها وجاء صاحبها، أيغرمه؟ فقال: لم أقل في هذا شيئا، ولو جوز هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها، ثم قال: تصدقت بها.
قال محمد بن رشد: أما الفاجر فلا يصدق أنه تصدق بها، ويلزمه غرمها، وإنما اختلف في غير الفاجر، فقيل: إن عليه الغرم لصاحبها إذا جاء إلا أن يشاء أن ينزل على أجرها كلقطة الدنانير والعروض، وهو دليل قوله في هذه الرواية: ولو جوز هذا للناس لعمد الفاجر فباعها وأكل ثمنها، ثم قال: تصدقت بها.
ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف عنه: أنه إذا وجد الشاة في العمران فعرفها فلم يجد صاحبها فأكلها أو تصدق بها أنه يغرم لصاحبها قيمتها يوم أكلها أو تصدق بها إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له أجرها، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وقيل: إنه لا ضمان عليه في المواشي إن تصدق بها أو بأثمانها بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها، بخلاف لقطة الدنانير والدراهم والعروض إذ لا يقدر على حبسها لعلفها، وهو قول مالك في الرسم الذي بعد هذا، ومثله في كتاب ابن عبد الحكم عنه.
واختلف قول مالك أيضا: هل له أن يأكلها بعد التعريف؟ فقال مرة: له أن يأكلها ويضمنها لصاحبها إن جاء، وهو قوله في رواية ابن عبد الحكم عنه، وفي رواية مطرف أيضا على ما حكي عنه ابن حبيب، بخلاف لقطة الدنانير والدراهم، وقال مرة: ليس له أن يأكل لقطة الدنانير والدراهم؛ لأن معنى قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عنده: «فشأنك بها»- أنه مخير بين أن يمسكها لصاحبها ويزيد في تعريفها، وبين أن يتصدق بها ويضمنها لصاحبها إن جاء إلا أن يشاء أن يجيز الصدقة ويكون له الأجر، ومن أهل العلم من يجيز له أن يأكلها على وجه السلف على ظاهر الحديث، غنيا كان أو فقيرا، وهو مذهب الشافعي.
ومنهم من لا يجيز له أكلها إذا كان محتاجا إليها، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقول ابن وهب في رسم السنة بعد هذا من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومنهم من لا يجيز ذلك له إلا أن يكون له بها وفاء إن جاء صاحبها وهو ظاهر الأقوال وأولاها بالصواب.
فيتحصل في المسألة على هذا أربعة أقوال:
أحدها: أن له استنفاقها بكل حال.
والثاني: أنه ليس له استنفاقها على حال.
والثالث: أنه ليس له استنفاقها إلا أن يكون محتاجا إليها.
والرابع: أنه ليس له استنفاقه إلا أن يكون له وفاء بها.
والأظهر أن لا فرق بين لقطة الماشية إذا وجدها قريبة من العمران حيث يجب تعريفها، وبين لقطة الدنانير والدراهم في جواز أكلها على وجه السلف ولا في وجوب الغرم عليه فيها لصاحبها إن تصدق بها، وبالله التوفيق.

.مسألة يجد الدرهم مطروحا أيأخذه أو يتركه:

وسئل: عن الرجل يجد الدرهم مطروحا، أيأخذه أو يتركه ويمضي لوجهه؟ فقال: لو أعلم أنه يجد صاحبه لكان أحب إلي أن يأخذه، ولكن أخاف أن يلزمك فأحب إلي أن تدعه فلا تأخذه، ولو وجدت من يأمره به رأيت ذلك.
قلت له: أفرأيت إن وجد دنانير لها بال أيأخذها فيعرفها أحب إليك أم يدعها فلا يأخذها؟ فقال: إذا كانت دنانير أو شيئا له بال فأحب إلي أن لا يدعها وأن يأخذها فيعرفها، وليس هذا مثل الدرهم والشيء الذي لا بال له خفيف المئونة على صاحبه لا تناله كبير مؤنة، وأما إذا كان الشيء الذي له بال فأحب إلي أن يأخذه فيعرفه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته.

.مسألة يجد الضالة فتنتج عنده:

ومن كتاب الأقضية الثاني:
وسئل: عن الرجل يجد الضالة فتنتج عنده، أيجوز له أن يأكل من نتاجها شيئا أو يأكل من ألبانها؟ فقال: أما نتاجها فلا يأكل منه شيئا، فقال: ألبانها فعسى أن يأكل منها، فقيل له: كيف يصنع بها؟ فقال: إذا بلغ الذي عليه فيها فليتصدق بها، قيل له: فلا يحبس لنفسه منها شيئا؟ فقال: نعم، لا يحبس لنفسه منها شيئا ولكن يتصدق بها، فقيل له: فإن جاء صاحبها لم يغرم من ثمنها شيئا؟
فقال: لا؛ لأن المواشي في مثل هذا ليست كالدنانير والدراهم، المواشي تؤكل فلا يقدر على حبسها لعلفها، فإذا تصدق بثمنها ثم جاء طالبها لم أر عليه شيئا.
قال: وكان عمر بن الخطاب يقول لمن أخذها: خلها حيث وجدتها. وأول من أمر ببيعها عثمان بن عفان، قال: تباع، وقد عرف صفتها ثم توقف أثمانها، فإن جاء طالبها أعطى ثمنها، فقال الذين يعذرون عثمان فيما أمر به من بيعها: إنه أمر ببيعها؛ لأن الناس سرقوها وذهبوا بها، فلذلك أمر عثمان ببيعها، قيل له: أفرأيت إن لم يأت من يعرفها؟ فقال: يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: حكم نتاج الضالة حكم ألبانها؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها»، فلذلك قال: إنه ليس له أن يأكل من نتاجها على وجه الاقتطاع، وأما أكله منها على وجه السلف بعد بلوغ ما عليه من التعريف بها، فعلى ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا من الاختلاف في أمهاتها، إذ لا فرق بينها وبين نتاجها.
وأما ألبانها فخفف أن يأكل منها، يريد: بقدر قيامه عليها والله أعلم؛ لأنه ينزل في ذلك منزلة الوصي في مال يتيمه، وقد قال ابن عباس في ذلك: إن كنت تبغي ضالة إبله وتتاجر بها وتلط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. وأما الزائد على ذلك فإن كان له قدر يشح به صاحبه فحكمه حكم اللقطة نفسها، وإن كان يسيرا لا قدر له ولا يعلم أن صاحبها لا يشح به فله أن يأكله، وقد مضى ذلك والقول فيه في رسم طلق من سماع ابن القاسم.
وقوله: إنه لا شيء عليه في الضالة لصاحبها إن تصدق بها- خلاف قوله في الرسم الذي قبل هذا، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى فلا وجه لإعادته، ومضى في الرسم الأول من هذا السماع القول في جواز أخذ ضالة الإبل للتعريف وفي وجوب ردها حيث وجدت بعد التعريف فلا معنى لإعادته.